الطب الشرعي يزدهر في الدول التي تحترم حقوق الإنسان:
مهنة الطب الشرعي هي مهنة مهمة ومثيرة للاهتمام، وتعرف بانها تطبيق للخبرات والمعارف الطبية لأغراض تحقيق العدالة للفرد والاسرة والمجتمع، وعلى الرغم من أهمية هذه لمهنة الا انها لا تخلو من التحديات والتعقيدات بطبيعتها فهي تقاطع حقيقي ما بين مختلف التخصصات الطبية وبين الشرطة والادعاء العام والقضاء والخدمات الإجتماعية وحقوق الإنسان، بل ويمتد وجوده إلى المحاكم الجنائية الدولية وفي مواجهة جرائم الحرب والإرهاب. فالطب الشرعي يزدهر في الدول التي تحترم حقوق الإنسان كونه المرجع العلمي الحقيقي لحماية الفرد والأسرة والمجتمع من الجريمة ومن العنف بكافة أشكالهما، فالقسوة ليست محور الطب الشرعي بالمطلق من الناحية العملية، بل القسوة والوحشية هي في مظاهر العنف والجريمة والتي يتطلب مواجهتهما علم الطبيب الشرعي وحنكته ومثابرته بهدف كشف الجرائم وتحليل مظاهر العنف وبالتالي الوقاية منهما.
متطلبات مهنة الطب الشرعي:
تتطلب هذه المهنة من الممارسين معرفة عميقة بالعلوم الطبية والقانونية، وقدرة على التحليل والاستنتاج والتواصل. الأطباء الشرعيون هم المسؤولون عن تحديد سبب ووقت وظروف الوفاة في الحالات المشبوهة أو غير الطبيعية، وتقديم شهاداتهم في المحاكم في قضايا جنائية أو مدنية. كما أنهم يساعدون في تحديد هوية ضحايا الكوارث أو الجرائم، وجمع وفحص الأدلة الجنائية على ضحايا الاعتداءات الجنسية، وإجراء بحوث علمية في مجالات متعلقة بالطب الشرعي
أن تكون طبيبا شرعيا ليس بالأمر السهل، فهذا التخصص يحتاج إلى نطاق واسع من المعرفة الطبية والقانونية، وإلى تطبيق هذه المعرفة في بيئة تتصف أنها حرجة في الأعم الأغلب من الأحيان، وبمرجعية أخلاقية عالية.
من أهم الصعوبات التي لها أهمية قصوى ما يلي:
(1) الطبيب الشرعي يعمل في بعض الأحيان مع مرضى قد لا يفصحوا عن ظروف تعرضهم للإيذاء لأسباب عديدة، وفي بعض الأحيان يتخذ الطبيب الشرعي قرارات أو يوثق نتائج لا تحظى برضى المصاب خاصة إذا كان موقوفاَ أو سجيناَ، وقد لا يرحب برأيه من قبل أقارب المصابين أو من قبل ضباط الشرطة، أو من قبل أطباء والعاملين في المستشفيات في حالات الأخطاء الطبية.
(2) قد يشكل الكشف الطبي على بعض السجناء والموقوفين العنيفين مجازفة تهدد حياة الطبيب، في ظروف تلزمه بإجراء الكشف الطبي دون وجود أفراد الشرطة والحرس في العيادة.
(3) الطبيب الشرعي هو الخبير في تفسير آلية حدوث الإصابات وهذه مسئولية كبيرة وخاصة أما القضاء، فيقع على عاتقه تفسير الإصابات فيما إذا كانت مفتعلة أو عرضية أو جنائية، وهو ايضا الخبير في جمع الأدلة الجنائية من جسم الضحية في مختلف الجرائم التي تقع على جسم الإنسان، وهذان تحديان كبيران مقلقان للطبيب الشرعي ويجب أن يتما بحرفية كبيرة وأي إخفاق بهما قد يؤدي إلى نتائج كارثية.
(4) على الطبيب الشرعي أن يؤدي الشهادة أمام القضاء عن حقائق علم بها أثناء كشفه على الضحايا، وفي أغلب الأحيان تمتد شهادته لتقديم الخبرة الطبية الشرعية حول هذه الحقائق للمحكمة وهذه المهام ايضا تحتاج إلى معرفة ومهارة ومسئولية عالية في تنفيذها.
(5) يتوقع من الطبيب الشرعي أن يوازن ما بين هدفه السامي وهو استخدام علمه لتحقيق العدالة والحفاظ على حقوق الإنسان بالمجتمع، وبين كتمانه للسر المهني ولحرية المريض بالموافقة على الإجراءات الطبيبة والتي تكون في أغلب الأحيان مواقف صعبة تحتاج لقرارات قائمة على العلم والقانون، وفي كثير من الأحيان يتفاقم هذا الأمر سوء بسبب غياب أو حجب المعلومات عن الطبيب الشرعي.
كل مواطن في المجتمع هو كنز ثمين ويستحق حياة أفضل
إن مهنة الطب في محورها الرئيسي تحافظ على صحة وحياة الإنسان، وكطبيب أرى أن كل مواطن في المجتمع هو كنز ثمين وأنه يستحق حياة أفضل، وتوفير ذلك لا يقتصر على التخصصات الطبيبة الرئيسية المعروفة حيث إن للعنف والجريمة آثار سلبية على صحة المواطن وبالتالي على صحة عامة المجتمع وهناك ضرورة لمواجهة ذلك بالطب الشرعي حفاظا على الفرد وعلى الأسرة والمجتمع وهذا كان الدافع وراء اختياري لتتخصص الطب الشرعي.
محاور تخصص الطب الشرعي الرئيسية
هذه المحاور معروفة للعاملين في القطاع الطبي والقانوني الجنائي ويدرس كمطلب رئيسي للتخرج من كليات الطب والقانون، وهناك حاجة إليه في كافة الخدمات الطبية والقانونية والاجتماعية التي تقدم للمواطنين.
طبيعة تخصص الطب الشرعي أنه يتعامل مع جسم الإنسان الذي وقعت عليه جريمة إن كانت تهدد صحته أو حياته او عرضه، وبالتالي يتوقع من الطبيب الشرعي أن يجري الكشف على الجثث إذا أدت الإصابة إلى الوفاة في جرائم القتل أو حوادث السير أو إصابات العمل وفي حالات كون الوفيات مشتبهة كوفيات المفاجئة للأطفال والكبار وكالانتحار، وضحايا العنف غير القاتل كالعنف الأسري والعنف ضد الأطفال، وضحايا العنف الجنسي، وهذه الحالات يكشف عليها في مراكز الطب الشرعي وعيادته في المحاكم او في إدارة حماية الأسرة وهناك عدد كافٍ من الأطباء لمتابعة هذه الحالات على مدار الساعة وفي المناطق المختلفة..
إعداد الطبيب الشرعي
يتطلب إكسابه معرفة طبيبة متخصصة ومهارة فائقة بالكشف السريري وإجراءات التشريح، ولأهمية وخطورة الموضوع لا يسمح للطبيب الملتحق حديثا بالتعامل مع الحالات منفردا، بل يكون تحت الإشراف المباشر لعدة سنوات من قبل أطباء أقدم منه في مجال التخصص، فلا يوجد هناك مجال للتجارب الشخصية في الاستجابة لمعضلات الطب الشرعي.
القسوة والوحشية هي ليست في المنظر النهائي الذي يشاهده الطبيب الشرعي إن كان بالمشرحة أو في العيادة وإنما القسوة والوحشية هي بالدافع لارتكاب الجريمة والعنف الذي أدى إلى هذه المشاهد، وإن أدعى اي طبيب إنه أعتاد على هذه المشاهد فهو يخادع نفسه لان ذلك يعني أنه أعتاد على تقبل حصول الجريمة والعنف وهذه مخالف لأبسط مبادئ الصحة العامة، لان أهم هدف للطبيب هو الوقاية والحد من المشكلة بالردع بتحليل وكشف الجريمة وتثقيف المجتمع وتدريب المهنيين وبالتالي منع والوقاية من العنف، الا أنه يتوقع أن يكون هناك فصل بين مشاعر الطبيب الانفعالية بحيث يجب أن يبعدها عن التفكير المنطقي بالتعامل مع القضايا المكلف بالكشف عليها.
كانت القضايا التي تشكل خطرا مباشرا على حياة المواطنين وأمن الوطن من أهم القضايا التي تترك أثرا وتحديا كبيرا أثناء العمل في الطب والشرعي وأهمها بالطبع هو الانفجارات الإرهابية التي حدثت مساء يوم 9/11/2005 فقد تم إنجاز الاستعراف على جميع جثث الشهداء خلال 12 ساعة أي حوالي الساعة الحادية عشرة من قبل ظهر 10/11/2005 كما وتم تم إنجاز الاستعراف والكشف على أشلاء الإرهابيين الساعة الخامسة مساء يوم 10/11/2005. أثناء الكشف الطبي المباشر على ضحايا الاعتداءات الإرهابية، قمنا بمهمة الاستعراف على الضحايا بعدة طرق بداية من الملحقات الشخصية والهوية والسمات البيولوجية إلى إجراء فحص البصمة الجينية كما وتم جمع الأدلة المادية من أجساد الضحايا والإرهابين من مثل الشظايا أو أجزاء مكونات القنبلة لمحاولة معرفة صانع القنبلة، وكذلك تم الكشف لنفي وجود أية إصابات مشتبهة سبقت التفجيرات، وتوثيق ماهية الإصابات بالتصوير الرقمي وبالتقارير الطبية وبتالي إثبات الجرم بتحديد أسباب وفيات الضحايا. مهمة أخرى هامة جدا قمنا بها وهي إثبات الجرم بالاستعراف على الإرهابيين بإعادة تركيب الأجزاء البشرية لمعرفة لمن تعود، عددهم، جنسهم، أعمارهم، طولهم، والتعرف على صفاتهم الإثنية والعرقية وعلى الملامح والقسمات الشخصية لهم وأي سمات مميزة لهم وهذه المهمة صعبة لأن بعض الأجزاء البشرية لم يعثر عليها مطلقا كما وتم إجراء فحص البصمة الجينية لأشلاء الإرهابيين للتعرف عليهم ولتتبع أماكن تواجدهم قبل ارتكابهم العمل الإرهابي. دور الطب الشرعي شمل أيضا بالإضافة للكشف المباشر على الجثث، التنسيق والمشاركة مع القطاعات الأخرى في عملية حصر المتوفين وبالتالي حصر المصابين والتعامل مع استفسارات الأهالي والأقرباء بطريفة إنسانية مرجعيتها البعد النفسي الاجتماعي وبما يتفق وأخلاقيات المهن الطبية والحفاظ على السر المهني والقانون وبما يضمن الحفاظ على السلامة العامة والأمن والآمان أثناء الكشف، وشمل ذلك التواصل مع المستشفيات والدفاع المدني والجهات التحقيقية والادعاء العام والتواصل مع الصحافة والإعلام باتزان حافظ على قانونية التحقيق والسرية المهنية وبنفس الوقت تم ذلك بطريقة اوصلت الحقيقة للمواطنين. تم التواصل مع أقارب الشهداء بهدف جمع المعلومات للتعرف على الجثث بمرجعية الحفاظ على السر المهني، حيث تم شرح الإجراءات للأسر وللأقارب واحترام رغبات وطلبات الأسر ومحاولة تلبيتها وإعلام الأقارب عن الإصابات التي عانى منها المتوفين وتحضير الأقارب نفسيا ومرافقتهم خلال الاستعراف واحترام رد فعل الأقارب لدى مشاهدتهم الموتى..
المهارة والمعرفة والالتزام باخلاقيات المهنة والقانون مركبات رئيسسة لشخصية الطبيب الشرعي:
شخصية الإنسان ونفسيته ومزاحه ونظرته للحياة هي خبرات حياتية متراكمة تبدأ بالطفولة، وشخصية الطبيب بالإضافة لذلك تُطَوّر لمواجهة تحديات مهنة الطب أثناء وجوده بالجامعة بتوفير المعرفة وإكساب المهارة بمرجعية مهنية أخلاقية عالية، وعليه فإن دور الطبيب بما في ذلك الطبيب الشرعي هو أن يكون مؤثرا في الأحداث التي يتعامل معها خلال مهنته ولا يتوقع منه أن يتصف بالسلبية ليتأثر بهذه المشاهدات، وهذا يتطلب ضبط النفس بشكل عالي وقد يحتاج لتدريب لأن يقوم بذلك، وأهم دافع قوي لمواجهة هذا الوضع هو وجود قناعة لدى الطبيب الشرعي أن ما يقوم به يتعدى مهارة إجراءات التشريح والكشف السريري إلى ما هو أبعد من ذلك بردع الجريمة وحماية المواطن والأسرة وبالتالي حماية المجتمع، عندها يتحول هذا التحدي إلى نظرة إيجابية للحياة بصيانتها والحفاظ عليها من أي ضرر أو عنف.
في الوقت الحالي هناك احترام كبير لمهنة الطب الشرعي في الأردن
كما هو الحال في كل الدول التي تحمي حقوق الإنسان، فعامة المجتمع يعترفون بأهمية الطب الشرعي في التعامل مع حالات العنف الأسري والعنف ضد الطفل وحالات الاعتداءات الجنسية، كما هو الحال في الحاجة اليه لتوثيق حقوق المواطنين في حوادث السير وإصابات العمل، بالإضافة لاحترام دوره في الكشف عن جرائم القتل والوفيات الناتجة عن الانتحار والوفيات المفاجئة. إن كان ارتباط الطب الشرعي بالموت قد جعل هذا التخصص لدى عامة الناس مرتبطا بالغموص وبعض الأحيان بالخوف وهذا متوقع، الا أن هذا الفكر يتلاشى أمام الحاجة الحقيقية له أمام الشرطة والقضاء وفي مجالات حماية الأسرة وحقوق الإنسان. هناك تقدير كبير لأهمية دور الطب الشرعي من قبل المهنيين في مجال القضاء والشرطة والمحاماة حيث لا يتم النظر في أي قضية تقع على جسم الإنسان الا بعرضه على الطبيب الشرعي وهناك اعتراف معلن من قبلهم بأن تخصص الطب الشرعي في الأردن وصل مرحلة علمية وأكاديمية متطورة.
الضغوطات على الطبيب الشرعي:
يتعرض الطبيب الشرعي لضغط من قبل المواطنين أو الزملاء أو حتى الأقارب لمعرفة معلومات عن القضايا التي يتم التعامل معها إن كان بهدف الفضول أو بهدف معرفة تفاصيل لصالح أحد الطرفين، الا أن الطبيب الشرعي لا يقوم بذلك بأي شكل من الأشكال كونه مخالف لأخلاقيات مهنة الطب بالحفاظ على السر المهني، وانتهاكا لضوابط العلاقة ما بين الطبيب والضحية كما وأنه يشكل مخالفة جنائية يعاقب عليها قانون العقوبات.
أخبار الصحف والاعلام ونشر المعلومات عن الجرائم ونتائج التشريح
في العادة تكون أخبار الصحف والاعلام عن الجرائم متضاربة وتنقصها المصداقية ويكون هدفها إشباع رغبة القارئ في الاستماع إلى المغامرة في الجريمة وهذا أمر سلبي يجب التخلص منه بكافة أشكاله، اما الدور الحقيقي للإعلام في مواجهة العنف والجريمة فيتفق مع الدور الوقائي للطب الشرعي وهو توعية عامة المواطنين لمواجهة الجريمة والعنف بالوقاية منها ومن جذورها وبتوعيتهم بحماية أنفسهم من مختلف المخاطر التي قد تهدد حياتهم، ويجب أن يكون هناك رسالة توعوية في كل خبر عن جريمة يكون مدروس بشكل مهني من قبل أعلامي متخصص.
المرجعية في نشر المعلومات عن الجرائم هو أمر مرتبط بالادعاء العام وفي كثير من القضايا تستوجب الظروف التحقيقية في الجريمة عدم نشر المعلومات وهذا أمر قانوني يتوقع من الإعلام أن يلتزم به بشكل كامل، وفي حالات معينة والتي تتصل بحياة عامة المواطنين مباشرة كقضايا الرأي العام او الأعمال الإرهابية او الكوارث الجماعية، يتوقع أن يكون هناك تصريح رسمي من قبل الأطباء الشرعيين بالإضافة للجهات الرسمية الأخرى بحيث يكون هدف ذلك أعلام المواطنين بما يختص بأقاربهم المصابين وتجنبا للفوضى، بما يتفق والقانون والأخلاقيات المهنية الطبية.
مسؤولية الطبيب الشرعي:
يتوقع من الطبيب الشرعي ان يعمل بدقة وبمثابرة وبحذر لأن رأيه المُوثق بالتقارير الطبية هو حاسم في توجيه مسار القضية والوصول إليه ليس عشوائيا ليشعر الطبيب بثقل المسؤولية، وإنما قائم على المعرفة والمهارة والأصول الأخلاقية المهنية وبمرجعية آخر ما توصلت اليه علوم الطب الشرعي في مجال الأبحاث العالمية، وعلى القدرة المهنية على التحليل والربط المنطقي للوقائع، فتحمل الطبيب للمسؤولية قائم على الدليل العلمي بالإثبات.
الدكتور هاني جهشان، مستشار الطب الشرعي
الخبير في العلوم الجنائية وحقوق الانسان
Comments