في القرن الخامس قبل الميلاد خلال حقبة أبقراط كانت آداب مهنة الطب (الأخلاقيات المهنية) جزءا هاما ومكملا لمهنة الطب ذاتها وهي الآن كذلك وستبقى مستقبلا. أبقراط هو أول من أعتبر ممارسة الطب مهنة وهو من أوجد آداب مهنة الطب، وأصبح واجبا على الطبيب أن يعلن أمام العامة من الناس قسما ووعدا بأن يضع مصلحة المريض فوق مصلحة الطبيب، وبذلك امتدت مسؤولية الطبيب من علاج المريض الفرد لحماية المجتمع.
في وقتنا الحاضر هناك أثر جلي لمنظومة حقوق الإنسان على ممارسة مهنة الطب وعلى آدابها، وشكلت "حقوق الانسان" العامل المشترك العابر للحدود ما بين الثقافات والمجتمعات والدول المختلفة، حفاظا على حياة الإنسان وصحته وكرامته.
اهمية حقوق الانسان تكمن في أن الطبيب في كثير من الأحيان يتعامل مع إصابات وأمراض تنتج عن انتهاكات لهذه الحقوق، من مثل التهجير القصري أثناء الحروب او التعذيب او العنف او الجريمة الخ... كما ان الأطباء لهم علاقة مباشرة في قرار نفاذ المواطنين للخدمات الصحية على المستوى الوطني والذي يشكل حق أساسي من حقوق الإنسان وحجب هذا النفاذ يشكل انتهاكا للحق بالحياة والصحة والعلاج.
آداب مهنة الطب أيضا مرتبطة مباشرة بالقانون: في اغلب دول العالم تشرع قوانين تحدد كيفية ممارسة مهنة الطب ولمن يصرح له بممارستها، ولوائح مهنية تنص على آداب المهنة تلزم الطبيب بتطبيقها أثناء تعامله مع المرضى أو أثناء قيامه بأبحاث علمية، وبموجب هذه القوانين واللوائح تمنح تصاريح ممارسة المهنة، وضبط جودة العمل ومعاقبة مرتكب الخطأ الطبي أو المخالف لآداب المهنة.
العلاقة المهنية بين الطبيب والمريض هي الأساس في الحفاظ على حقوق المريض:
يعرف التعاطف بأنه فهم واهتمام بشخص يعاني من الضيق والكرب، وهو أمر أساسي خلال ممارسة الطب، واظهرت الابحاث ان المريض يستجيب بشكل أفضل للعلاج إذا تبين له أن الطبيب يقدر مخاوفه وقلقه أكثر من مجرد وصف العلاج.
الكفاءة متوقع ان تكون الأساس أيضا في ممارسة الطب، لان غيابها قد يؤدي لموت المريض أو إعاقته او تفاقم مرضه. يتم تدريب الأطباء لفترات طويلة لضمان كفاءتهم، لكن التطور السريع للعلوم الطبية هو تحدي كبير للحفاظ على هذه الكفاءة. الكفاءة تتضمن المعرفة بعلوم الطب والمهارة في الإجراءات والتدخلات الطبية، غير انه لا تكتمل الفائدة من كفاءة الطبيب إلا إذا رافقها التزام الطبيب بالآداب المهنية للطب. آداب مهنة الطب يجب أيضا أن تتطور مع ما يستجد من تطور بالعلوم الطبية وتأخذ بعين الاعتبار المجتمع المحلي من الناحية الاجتماعية والسياسية.
الاستقلالية هي في صميم ممارسة مهنة الطب، وتاريخيا كان هناك استقلالية تامة للطبيب في القرارات التي يتخذها في علاج مرضاه، وكان للأطباء وحدهم القرار في معايير تدريس علوم الطب ومهارات ممارسته، إلا أن هذا تغير مع مرور الزمن وأصبحت سلطات الدولة تتدخل بالسيطرة على عدد الأطباء وطبيعة محتوى تدريسهم وتوفير الإمكانيات للقيام بذلك.
قسم الطبيب يتضمن نصوص متفاوتة عبر الأحقاب التاريخية وبين الدول المختلفة إلا أنها جميعها تتضمن المبادئ الأساسية التالية (1) الوعد والإعلان أن مصلحة المريض اعلى وأسمى من مصلحة الطبيب (2) عدم التمييز بين المرضى بسبب الدين والعرق والهوية والجنس والمجموعات الأخرى الواردة في المواثيق الدولية (3) الحفاظ على السرية المتعلقة بالمرضى (4) وواجب أن يقدم الطبيب العلاج الطارئ لأي شخص يحتاج له.
العلاقة المهنية للطبيب مع المجتمع تمنع انتهاك الحكومة لحقوق المريض:
الطب مهنة تتصف بالالتزام برفاه المواطنيين في المجتمع، ولهذه المهنة معايير أخلاقية راقية توفر المعرفة الطبية والمهارة العلاجية والاستقلالية المتوقع ان تكون موجودة لدى جميع الأطباء.
مهنة الطب لا تقتصر على العلاقة بين الطبيب والمريض وعلى العلاقة بين الأطباء وزملائهم ومع المهن المساندة الأخرى، بل تمتد لتشمل علاقة الطبيب بالمجتمع. تتصف علاقة الطبيب بالمجتمع بالعقد الاجتماعي بحيث يضمن المجتمع امتيازات المهنة بتوفير الخدمات الصحية ومنح الأطباء فرصة لتنظيم عملهم المهني، بما يتيح للمجتمع الاستفادة القصوى من خدمات الأطباء لصالح المرضى.
الطب في الزمن الحاضر يدار من قبل الحكومة والمؤسسات العسكرية والمؤسسات المالية والشركات الكبرى. وتعتمد ممارسة الطب على الأبحاث والدراسات التي تجرى في المجتمع، كما ان الطب يتعامل مع حالات ذات منشأ اجتماعي من مثل العنف الاسري، تماما كما يتعامل مع الحالات ذات منشأ جرثومي او بيئي.
دور الطبيب في المجتمع: المجتمع له علاقة مباشرة بالطبيب كون المرضى الذين يتعامل معهم يتأثرون مباشرة بالبيئة المجتمعية والاجتماعية التي يعيشونها، وهناك دور أساسي لجماعة الأطباء إن كانوا في الحكومة او النقابات والجامعات في مجال الصحة العامة، التعليم الطبي، والحفاظ على البيئة، وأيضا لهم دور هام في مجال التشريعات التي تؤثر على صحة ورفاه المواطن في المجتمع، وأيضا لهم دور في تحقيق العدالة بالمجتمع من خلال تقديم المعلومات الطبية والشهادة لتحقيق العدالة في المحاكم، هذه الأدوار يتوقع أن يقوم بها جماعة الاطباء الا ان ذلك ليس حكرا عليهم كجماعة فمن المتوقع أن يقوم بها الطبيب بمفرده.
الحكومة بالعادة لا تحترم المجتمع بشكل حقيقي على الرغم من انها وجدت لخدمته، فالعلاقة بين الطبيب والمجتمع ليست محصورة بعلاقته بالحكومة فهي تمتد لجميع مكونات المجتمع على الرغم من التحكم السلبي للحكومة بهذه العلاقة.
ورد في إعلان حقوق المريض لجمعية الأطباء الدولية لعام 2005 والمعاد اعتماده عام 2015 على "عندما تنتهك حقوق المرضى بسبب التشريعات، او بسبب قرارات الحكومات، أو من قبل أي إدارة أو مؤسسة يتوجب على الأطباء اتباع كافة الوسائل المناسبة لضمان تحقيق حقوق المرضى ومنع انتهاكها وضمان إعادة الاستفادة منها"
للأطباء دور هام في الاستفادة من مصادر العلاج الشحيحة بالمجتمع للمنفعة القصوى للمرضى، ومنع استغلالهم من قبل خدمات القطاع الخاص السلبية التي تهدف بشكل رئيسي الكسب المادي بعيدا عن المهنية والالتزام بحقوق المريض.
الولاء المزدوج - ولاء طبيب القطاع العام للمريض مقابل ولائه للمؤسسة التي يعمل بها (الحكومة)
عندما يعمل الطبيب في مؤسسة حكومية او عسكرية او جامعية او خيرية او لدى شركات التأمين او في السجون، تشكل هذه المؤسسة طرفا ثالثا في العلاقة المهنية ما بين الطبيب والمريض، وفي كثير من الأحيان تتعارض مصلحة المريض مع ما يبدو مصحة للمؤسسة (الطرف الثالث).
ينص الدستور الطبي لجمعية الأطباء الدولية "على الطبيب ان يكون كامل الولاء للمريض" والتحدي الكبير هو كيف يقوم الطبيب بالحفاظ على الولاء للمريض بوجود طرف ثالث في العلاقة بينهما.
التبليغ الإلزامي عن بعض حالات المرضى تعطي أولوية قصوى لحماية المجتمع من (1) الامراض المعدية والامراض البيئية (2) الأشخاص غير القادرين على قيادة السيارات لأسباب صحية (3) تعرض الأطفال للعنف. ويتوقع من الطبيب ان يعطي الأولية المطلقة لصالح المجتمع في مثل هذه الظروف ويتوقع من الطبيب ان يُعلم المريض انه سيقوم بالتبليغ عن حالته المرضية او الاصابية.
في المقابل يتوقع من الطبيب ان يرفض أي ممارسة تطلب منه، تبدو انها في صالح المجتمع كوقاية او اكتشاف الجرائم، يتم خلالها استخدام المعرفة والخبرة الطبية في أمور تتعلق بالتحقيق مع المتهمين، او إجراء ينتهك حقوق الإنسان بما في ذلك مشاركته في إجراءات ما قبل او خلال او ما بعد التعذيب، وهذا الامر ورد بنصوص واضحة في قرار لجمعية الاطباء الدولية بشأن مسؤولية الأطباء في نقض أعمال التعذيب أو المعاملة القاسية أو اللاإنسانية أو المهينة.
تدخل الطرف الثالث في استقلالية الأطباء وقرارهم حول علاج المرضى، كما حصل مؤخرا بتدخل وزارة الصحة الاردنية في قرارات تحويل المرضى وتوفير العلاج لهم وحجب التأمين الصحي عنهم، يشكل انتهاكا صارخا لحقوق المريض، فإن لم يستطع الأطباء تغير واقع الحال ومحدودية الخيار لهم في الاستمرار بتقديم الخدمة بأشراف الطرف الثالث، يتوقع منهم القيام بأنشطة لكسب التأييد ومناصرة المرضى بقوة وحسم وجدية إن كان ذلك بشكل شخصي فردي أو من خلال النقابات المهنية ومؤسسات المجتمع المدني بهدف حماية المرضى من الأضرار التي تلحق بهم من الإجراءات والسياسات الحكومية (الطرف الثالث) أو مَن بحكمهم من المؤسسات الأخرى.
شكل اخر من الولاء المزدوج يلحق الضرر بالمرضى هو ولاء الأطباء لشركات الادوية والمستلزمات والأجهزة الطبية بقبولهم العشوائي للهدايا والعينات الطبية من عقاقير وأجهزة والاشتراكات المجانية في المؤتمرات الطبية والرحلات السياحية. على الطبيب في هذه الحالات أن يبتعد عن أي شبهات بقبول هذه الهبات والهدايا حفاظا على حقوق المريض من تغول هذه الشركات بهدف الربح المادي السريع قبل التأكد من نجاعة منتجات هذه الشركات بالدراسات والأبحاث المسندة.
دور الطبيب في توفر الإمكانيات والموارد الصحية لعلاج المرضى:
يتم التحكم بالإمكانيات المتوفرة لعلاج المريض على المستويات التالية:
بأعلى الهرم وهو المخصصات المالية التي يقرها مجلس الوزراء لتقديم الخدمات الصحية وما يرافق ذلك من قرارات إدارية لوزارة الصحة لتقنين الصرف المالي، بما في ذلك قرارات تتحكم بتوزيع الموارد المالية على الرواتب والمستلزمات والخدمات المساندة.
قرارات على مستوى المستشفى او العيادة او المرفق الصحي، وما قد يرافق ذلك من سوء بالإدارة وشيوع الفساد.
قرارا على مستوى الطبيب المعالج ويتضمن ذلك الفحوصات التي قد يطلبها الطبيب ومدى الهدر والفساد في استخدام الأدوية والمستلزمات والأجهزة الطبية.
هذا المستويات الثلاث تؤثر مباشرة على رفاه المريض وحقوقه بالحياة والصحة والعلاج وايضا على الالتزام بالمهنية وآداب مهنة الطب. يتوقع من الطبيب ان يتحكم بالمستوى الثالث المتعلق به مباشرة بتوفير الإمكانيات الطبية وهذا لا يعفيه من واجب التدخل وكسب التأييد على مستوى المؤسسة والمستشفى وعلى المستوى الحكومي لضمان التوزيع العادل للإمكانيات والموارد الصحية لجميع المرضى بالتساوي على المستوى الوطني.
لقد ورد نص واضح في اعلان حقوق المريض للجمعية الدولية للأطباء أن توزيع الموارد والإمكانيات الطبية يجب ان يتم على جميع المرضى بالتساوي وذلك على المستوى الوطني وبمرجعية قرار طبي مهني أخلاقي يلتزم بآداب المهنة، وللأسف هذا لا يتم في الأردن حيث يتم توزيع الموارد والامكانيات الطبية بما فيها الحصول على العقاقير الطبية وإجراء خدمات التصوير الشعاعي والفحوص المخبرية والنفاذ للعيادات وأسرة المرضى في المستشفيات، بتدخلات إدارية تميز وتفرق بين المرضى بدافع الواسطة والفساد. يتوقع من كافة الأطباء مواجهة هذه الظواهر بمرجعية التزامهم بآداب المهنة وأيضا بالتعليم الطبي المستمر بما يستجد حول فاعلية العقاقير والاجهزة الطبية وأيضا الالتزام بأدلة إجراءات معتمدة معرفيا وبحثيا ثبت أنها ناجعة في تأمين علاج حقيقي للمرضى.
يتوقع من الطبيب ان لا يشارك في وضع أو المساهمة في قبول سياسات للمستشفى او المؤسسة التي يعمل بها او للحكومة تخفض او تحجب إمكانيات علاج المرضى، واي مشاركة له في مثل هذه السياسات يعتبر مخالف لآداب المهنة، وإن اضطر للاشتراك عليه الاعتراض وكسب التأييد لعدم قبول مثل هكذا سياسات.
ورد بالمادة الأولى من الدستور الطبي الاردني الصادر بموجب قانون نقابة الاطباء: "أن مهنة الطب مهنة إنسانية وأخلاقية وعلمية قديمة قدم الإنسان أكسبتها الحقب الطويلة تقاليد ومواصفات تحتم على من يمارسها أن يحترم الشخصية الإنسانية في جميع الظروف والأحوال وأن يكون قدوة حسنة في سلوكه ومعاملته مستقيما في عمله، محافظا على أرواح الناس وأعراضهم، رحيما بهم وباذلا جهده في خدمتهم..." فالصمت حول انتهاك حقوق المريض ليس هو فقط انتهاك للآداب المهنية الطبية العامة بل مخالفة لنص هذه المادة.
الدكتور هاني جهشان مستشار الطب الشرعي
الخبير في حقوق الإنسان واداب مهنة الطب
Kommentare