واقع القطاع الصحي العام في الأردن:
اتخذت وزارة الصحة قرارات مؤخرا بهدف تقنين صرف الأموال من مثل حجب التأمين الصحي عن عدد كبير من المواطنين وإعاقة إجراءات التحويل للمراكز الطبية المتخصصة من مثل المستشفيات الجامعية ومركز الحسين للسرطان والخدمات الطبية الملكية.
نتج أيضا عن قرارات التقنين المالي نقص في توفر المستلزمات والمستهلكات الطبية والأدوية، وهذا الامر غير مقبول بالمطلق، لأنه لا خدمة طبية حقيقية بدونها.
رافق هذه القرارات غياب للشفافية وتمادي في تشكيل لجان تحقيق من قبل الرقابة الداخلية، أعضائها من وزارة الصحة ذاتها تتقصى الأخطاء الطبية والتجاوزات المهنية والإدارية الأخرى وهذه اللجان تتصف بأنها غير قانونية بسبب تضارب وتقاطع المصالح ما بين أعضائها وبين من يحقق معهم ونتج عن ذلك عدم ملاحقة العديد من الأخطاء الطبية. ليس من المتوقع من مؤسسة حكومية تقدم خدمات للمواطنين أن تحقق في إخفاقات هذه الخدمات، ويكون هذا التحقيق مدعاة للشبهة إذا كان الموضوع يتعلق بحياة المواطن والتحقيق في ظروف وفاته.
لا زال سرطان الفساد يكمن في جسد وزارة الصحة ويضعف من وجودها ومن انجازاتها ويشمل إصدار التقارير الطبية غير الحقيقية، وهدر العقاقير الطبية والمستلزمات، والفساد المتعلق بالعطاءات، والكسب غير المرئي بتقديم خدمات طبية سرا، والاستثمار الوظيفي اجتماعيا وماليا. مجمل وضع وزارة الصحة الحالي هو أرض خصبة للعوائل المتنفذة والنواب والمدعين بأنهم شيوخ العشائر بالاستثمار الاجتماعي وقد يكّون المالي على حساب المرضى وهذا بحد ذاته أمر مقرف وانتهاك لحق المواطن بالصحة والحياة والمساواة.
تفاقم سوء الإدارة والبيروقراطية ومزاجية القرارات والفوضى في تقديم الخدمات إن كان العلاجية او خدمات الصحة العامة.
تفاقم هجرة الأطباء والكوادر الصحية الاخرى إن كان لدول الخليج أو إلى الولايات المتحدة وأوروبا، وللأسف تشجع رئاسة الوزراء ووزارة الصحة ووزارة المالية هذه الهجرة بإجراءات مبسطة جدا وبالتالي زيادة التحويلات المالية من الخارج وإن كان ذلك على حسب المريض الذي يتطلب علاجه تواجد هذه الأدمغة المهاجرة في الأردن.
التأمين الصحي للجميع اكذوبة وتستخدم اداة سيطرة على الشعب، وأهمها الاستجداء على أبواب النواب والاعيان والرئاسة والوزراء وصندوق المعونة والتنمية الاجتماعية الخ... وهذه يجب ان تلغى جملة وتفصيلا وتحول لصندوق واحد مشترك... مع تفعيل قانون التأمين الصحي بالضمان الاجتماعي المجمدة مواده منذ إصدار القانون، وهذه الاخيرة مهزلة اخرى بحد ذاتها.
استجداء العلاج بالصحف والمواقع الالكترونية ومحطات الإذاعة واستجابة المسؤول فلان او علان للخبر... قمة بالتخلف والمهانة للمواطن المريض وأسرته، وهذا المسؤول لا يقدم فلسا من جيبه الخاص بل يوفر الاستجابة بنفوذه لمفاتيح محددة على حساب مواطن اخر قد يكون له الاحقية بالعلاج.
عندما يتعلق الأمر بحق الإنسان بالحياة والصحة والعلاج، وحقه بالعيش بكرامة يكون السكوت عن انتهاك الحقوق جريمة، ودور الطبيب أي طبيب يتعدى توفير العلاج السريري لحالة معينة بل يجب أن يمتد ليمنع تكرارها في المجتمع... وصحة المجتمع هي مسؤولية للأسف يتجاهلها أغلب الأطباء، فسكوت مجمل جماعة الأطباء (النقابة) عن حال وزارة الصحة غير مقبول، فلا صحة للفرد بدون صحة المجتمع.
مسؤولية الحكومة: الحق بالحياة والحق بالصحة والحق بالعلاج لا تنتهك من قبل طبيب اخطأ، فإن ثبت خطأه يجب ان يعاقب جنائيا وحقوقيا وإداريا وتأديبا، وإنما لا تنتهك الحقوق إلا من قبل الحكومة (وهذا من أبجديات حقوق الأنسان) وهنا نتكلم عن وزارة الصحة ورئاسة الوزراء بإخفاقهما بتوفير الرعاية الصحية الحقيقية القائمة على المعرفة والمهارة والالتزام بالأخلاقيات المهنية والقانون.
حتى في حالة عدم وجود خطأ في الإجراء الطبي؛ فإن ما حدث للطفلة سدين لا يعفي من المسؤولية الجزائية، هناك {تقصير وقع بعدم تحويل الطفلة فورا إلى مستشفى الملك عبد الله لتلقي العلاج المناسب، فالتحويل لمستشفى رعاية متخصصة واجب، إذا كانت الإمكانيات المتاحة في المستشفى حيث توجد الطفلة لا تلبي ضروريات علاج الطفلة}.
لماذا وجدت المستشفيات الجامعية؟ هل هي مجرد رفاهية لنتباهى أن لدينا مستشفيات متخصصة، {التحقيق كان من المفروض أن يشمل عوائق تحويلها للمستشفى الجامعي وعوائق الحصول على الإعفاء، وايضا إجراءات الوزارة الأخيرة بضبط النفقات وتأثيرها سلبا على تفاقم المرض، لأن وزارة الصحة طرف ولا يجوز إجراء تحقيق منفرد من قبلها حول اجراءاتها وكفاءة أطبائها وموظفيها لتضارب المصالح}.
ملاحقة الطبيب ليست بديلا عن ملاحقة المسؤولين في الحكومة: سيادة القانون وتحقيق العدالة لا يتم إلا بالتحقيق مع والملاحقة القضائية لمن اقترح أو وجّه أو نفّذ تعليمات التحويل للمستشفيات الجامعية والإعفاءات لغير المؤمنين صحيا التي صدرت مؤخرا عن الحكومة الحالية. المبدأ القانوني والشرعي "لا ضرر ولا ضرار" وهناك ضرر واضح، بل واضح جدا، مِن أن تعليمات رئيس الوزراء ووزير الصحة هي السبب في وفاة الطفلة. ما حصل قبيل وفاة سدين هو انتهاك مقزز لحق هذه الطفلة بالحياة والصحة والعلاج.
"التأمين الصحي للجميع" أكذوبة من الحكومة الحالية كما الحكومات التي سبقتها؛ تعقيدات بيروقراطية وتأخير ليس له مبرر، واسطات تستقبل روتينيا من قبل أطباء وزارة الصحة واستثمار وظيفي بالعلاقات الاجتماعية لإرضاء من اعتادوا على طلب الواسطة مِن مَن يدعون انهم "وجهاء وشيوخ مناطقهم"، وبالتالي مَن ليس له واسطة للحصول على إعفاء تأمين صحي من أي جهة كانت، كالطفلة سدين، يكون مصيره الموت. من السذاجة الاعتقاد أن التقطير على المرضى وخاصة الأطفال سيصلح ميزانية الحكومة، إن حياة المرضى وحياة الأطفال ليست أرقام في ميزانية الدولة وأمراضهم ليست مديونية بحاجة لقرارات إصلاح اقتصادي، وتكلفة علاجهم لا يجب أن تكون سدادا ماليا لهدر وفساد عوائل توريث المناصب والإقطاع النخبوي.
نعم اكرر واكرر لعل وعسى... عندما يتعلق الأمر بحق الإنسان بالحياة والصحة والعلاج، وحقه بالعيش بكرامة يكون السكوت عن انتهاك الحقوق جريمة.
الدكتور هاني جهشان مستشار الطب الشرعي الخبير في الاخلاقيات المهنية وحقوق الإنسان
Comments