top of page
  • صورة الكاتبمستشار أول الطب الشرعي الدكتور هاني جهشان

الأطفال المتخلى عنهم ضحايا ليس لهم صوت، إنهم يستحقون العدالة والحياة


الأطفال المتخلى عنهم ضحايا ليس لهم صوت
الأطفال المتخلى عنهم ضحايا ليس لهم صوت

عُرف التخلي عن حديثي الولادة وقتلهم عبر كافة العصورالتاريخية وهو مأساة شائعة في كافة دول العالم المعاصر وفي كل الخلفيات الإثنية، والعرقية، والاجتماعية، والثقافية. عدد حالات اللقطاء المعلن عنها في الأردن هو بضع عشرات سنويا، والرصد الإعلامي الأخير لحالات العثور على اللقطاء أو جرائم قتل حديثي الولادة وحتى جرائم خطفهم، لا يعتبر مؤشرا على زيادة عدد هذه الجرائم بسبب غياب الإحصاءات القائمة على مرجعية ومقاييس علمية محددة كما هو حال هذه الجريمة في معظم دول العالم. إن سبب زيادة معرفة العامة من الناس بهذه الجرائم هو التطور الإعلامي الكبير وسهولة تقنيات التواصل الشخصية


عموما ترتكب "جرائم هجر الطفل بتركه حيا في مكان ما" من قبل أمهات واباء لا تميزهم صفات شخصية أو سمات جرمية محددة ويتم ترك الطفل في أماكن تتفاوت في تصنيفها من أنها "آمنة نسبيا" مثل اماكن العبادة أو بوابة دار رعاية أجتماعية أو في مستشفى، إلى أماكن يشكل ترك الطفل بها بحد ذاته مخاطرة كبيرة على حياته كحاويات النفايات أو المراحيض العامة أو أمكان مفتوحة كقارعة الطريق في ظروف قد تعرض الطفل للبرد أو للحرالشديد، ولمخاطر الأمراض المعدية والوفاة وفي بعض الحالات يتم التخلص من الطفل بتركه في المستشفى حيث وُلد بهروب والدته التي تكون قد أخفت هويتها الحقيقية. قانون العقوبات الأردني جرّم هذ الفعل بنص واضح حيث ورد بالمادة 289 من قانون العقوبات أن "كل من ترك قاصراً لم يكمل الخامسة عشرة من عمره دون سبب مشروع او معقول ويؤدي الى تعريض حياته للخطر، او على وجه يحتمل ان يسبب ضررا مستديماً لصحته يعاقب بالحبس من ثلاثة أشهر إلى سنة وتكون العقوبة الحبس من سنة إلى ثلاث سنوات إذا كان القاصر لم يكمل الثانية عشرة من عمره" كما ونصت المادة 288 على أن " من أودع قاصراً مأوى اللقطاء وكتم هويته وهو يعلم بأنه مقيدٌ في سجل الأحوال المدنية مولوداً غير شرعي معترف به أو مولوداً شرعياً عوقب بالحبس مدة سنتين على الأقل"

المثير للقلق بشكل أشد من العثور على طفل لقيط هو وجود مؤشرات أن حالات التخلص من حديثي الولادة المعروفة ما هي الإ جزء من مشكلة أعم تتصف بالغموض والتراخي بالتعامل معها ومواجهة جذورها، فهناك أطفال غير مرغوب بهم يتم التخلص منهم ليس بوضعهم في أمكان عامة أوخطرة وإنما بقتلهم عمدا أو بإهمالهم أو بعدم رعايتهم طبيا وقد يتم دفنهم ودفن قصتهم معهم من دون ضجة إعلامية، أما في حالة أكتشاف هذه الجرائم فإنه ولعدة أسباب يتم تخفيف العقوبة وبنص القانون فقد نصت المادة 331 من قانون العقوبات على: إذا تسببت امرأة بفعل أو ترك مقصود في قتل وليدها الذي لم يتجاوز السنة من عمره على صورة تستلزم الحكم عليها بالإعدام ولكن المحكمة اقتنعت بأنها حينما تسببت في الوفاة لم تكن قد استعادت وعيها تماما من تأثير ولادة الولد أو بسبب الرضاعة الناجم عن ولادته، تبدل عقوبة الإعدام بالاعتقال مدة لا تنقص عن خمس سنوات" كما وخففت المادة 332 العقوبة كما يلي "تعاقب بالاعتقال مدة لا تنقص عن خمس سنوات، الوالدة التي تسببت - إتقاء العار - بفعل او ترك مقصود في موت وليدها من السفاح عقب ولادته".


لماذا تتخلص الأمهات وفي بعض الاحيان يتخلص الأباء أو الأقارب من حديثي الولادة؟ في العادة تتخلص الوالدة من وليدها بسبب إختلال إرتباطها الأمومي بالطفل الذي يبدأ بحمل غير مرغوب به، كأن يكون ثمرة تعرضها للإغتصاب أو الإستغلال الجنسي أو ثمرة زنى أو سفاح المحارم أو تكون الزوجة كرهت زوجها كرها شديدا بسبب فساده وانحراف أخلاقه أو إيذائه لها أو بسبب معاناتها من مرض نفسي أو من مرض عضال، أو بسبب الفقر وضيق الحال وكثرة الأطفال، وقد يكون بسبب التخلص من الوليد لتجنب اقتسامه الإرث. على الرغم من هذا المدى الواسع للأسباب المحتملة إلا أنه في الأعم الأغلب من الحالات يكون "اتقاء العار من حمل غير شرعي" الدافع لجريمتي هجر الطفل أو قتله. تشعر المرأة التي تفكر بالتخلص من جنينها أو وليدها أنها وحيدة في حالة عزلة وأنه لا يوجد من يقدم لها العون وتصارع ظروف نفسية وجسدية وإجتماعية تفوق طاقتها تكون خلالها عاجزة عن مواجهة مشكلتها ومواجهة المجتمع المحيط بها وتشعر أنها منبوذة وفي حالة أنكار لواقعها، وبأي حال من الأحوال معاناتها هذه لا تعتبر سببا أو مبررا لأن ترتكب جريمة بشعة أو لأن تخفف عنها العقوبة.


ما هو الحمل غير الشرعي؟ عرف القانون الأردني الزواج بالمادة 2 من قانون الأحوال الشخصية "بأنه عقد بين رجل وإمرأة تحل له شرعا لتكوين أسرة وإيجاد نسل بينهما" وعليه يكون أي حمل خارج هذا النطاق هو حمل غير شرعي. هناك إحتمالان لظروف حدوث الحمل غير الشرعي الأول يكون نتيجة إرتكاب المرأة لجريمة نص عليها القانون والإحتمال الثاني كونها ضحية جريمة نص علهيا القانون؛ فبالاحتماال (الأول) عندما تكون المرأة محرمة تحريما مؤيدا أو مؤقتا على الرجل فيكون حملها نتاج أرتكابهما لجريمة سفاح المحارم (قانون العقوبات المواد 285 و286) وإذا كانت غيرمحرمة عليه وحصل الحمل بدون زواج صحيح بينهما يكون حملها ناتج عن أرتكابهما جريمة الزنى (قانون العقوبات المواد 282 و283 و284) وقد يكون الحمل نتيجة مزاولة المرأة لجريمة البغاء (قانون العقوبات المواد 309 لغاية 318)، ففي جميع هذه الحالات تكون المرأة قد أرتكبت جريمة يعاقب عليها القانون بنص واضح، ويكون دافعها لإرتكاب جريمة هجر أو قتل حديث الولادة محاولة منها لحجب جريمتها الأساسية والتخلص من عواقبها. أما الإحتمال (الثاني) والذي تحمل به المرأة الضحية نتيجة أغتصابها دون رضاء صحيح منها بذلك (قانون العقوبات المواد 292 و293 و294 و295) أو نتيجة استغلالها جنسيا أوتعرضها لهتك العرض (قانون العقوبات المواد 296 و297 و298 و299)، أو نتيجة خداعها كبكر بوعد الزواج وفض بكارتها (قانون العقوبات مادة 304). في هذه الحالات تُرتكب جريمة هجر الطفل أو قتله من قبل المرأة أو أقاربها اتقاء للعار وتجنبا للوصمة الإجتماعية.


ما هو مصير الحمل غير المرغوب به؟ إن إسقاط الجنين قبل ولوج الروح به أو إسقاط الحميل بعد ولوج الروح يشكلان جريمة إجهاض يعاقب عليها قانون العقوبات الأردني (المواد 321 لغاية 325) وكون الأم ضحية إغتصاب أو إستغلال جنسي أو كون الجنين نتاج علاقة خارج نطاق الزوجية فلا يعتبره القانون الأردني داعيا لإجراء الإجهاض العلاجي، حيث أن الإجهاض هو تحطيم كائن بشري، ولا ذنب لهذا الكائن البشري بأن يدمر بسبب جرائم أرتكبها الأخرون والأساس الشرعي والقانوني أن أي إعتداء عليه هو محرما ومجرما، وهنا تتكررمعاناة الضحية طوال فترة حملها وولادتها. أما جريمة قتل الوليد عقب ولادته فيشكل جريمة قتل عمد أو قصد قد تصل عقوبتها للإعدام إذا كان مرتكب الجريمة أي شخص غير الأم (قانون العقوبات المواد 326 و327 و328 و329). ويشكل جريمة عقوبتها مخففة إذا قامت بالفعل والدة الطفل (قانون العقوبات المواد 331 و332)، وتكون الجريمة جنحة عقوبتها بسيطة نسبيا إذا هُجر الوليد حيا في مكان عام (قانون العقوبات المواد 389 و390) أو ترك في المستشفى حيا أو أودع في مأوى اللقطاء (قانون العقوبات المادة 288).


هل من الممكن الوقاية من جريمتي هجر الوليد أو قتله؟ من السهولة والبساطة أن ندعو إلى تشديد العقوبة على جريمة هجر الطفل الرضيع (المادة 289 و288) أو إلى إلغاء المادة 332 والمادة 331 في قانون العقوبات التي تخفف كل منهما العقوبة عن جريمة قتل الوليد أو ندعو أو تشديد العقوبة على جريمة الزنى المواد من (مواد 282-286 من قانون العقوبات)، ولكن هل سيردع ذلك جريمتي هجر حديث الولادة أو قتله؟ إن الحمل غير الشرعي الحاصل خارج نطاق الزوجية والناتج في شقه (الأول) عن جريمة تتعرض لها المرأة الضحية كالإغتصاب وهتك العرض والإستغلال الجنسي، هو نوع من العنف ومسئولية الوقاية منه ومن عواقبه تقع على عاتق الدولة إبتداءا، فيتوقع من الدولة أن توفر برامج الوقاية الأولية من العنف الجنسي الواقع على الإناث والأطفال بكافة أشكالة، وقياس نجاح ذلك يتطلب فترات زمنية قد تصل إلى بضعة سنوات إلا أنه يجب البدء بها بالحال، أما عند وقوع العنف الجنسي يتوقع من الموسسات الحكومية أن توفرالإستجابة الطبية والطبية الشرعية المتكاملة للضحايا بما في ذلك توفير عقار مانع الحمل لما بعد الإتصال الجنسي. أما الشق (الثاني) للحمل غير الشرعي الناتج عن أنشطة خارج نطاق الزوجية لا تكون المرأة به ضحية وإنما مرتكبة لجريمة الزنى أو السفاح وهنا تكون المسئولية الوقائية للدولة قائمة على التثقيف الجنسي بشكل عام وخاصة للطلبة واللذي سيحد بشكل كبير من الأنشطة التي قد تؤدي إلى حمل خارج نظاق الزوجية إلا أن قياس النجاح أيضا يحتاج إلى عدة سنوات من بداية مثل هذه البرامج. عن حصول الحمل غير الشرعي خارج نطاق الزوجية يتوقع من المؤسسات الحكومية والتطوعية أن توفر برامج لمواجهة هذا التحدي الصعب تكون مرجعيته حماية المرأة وحماية جنينها أو حميلها أو وليدها بما يتفق والقوانيين السائدة والشرع الحنيف، علما بأن وجود مثل هذه البرامج لا يعني مطلقا تأيدا أو دعوة لإباحة الزنى وإنما هو إستجابة لحالة مرضية إجتماعية أساسها الوقاية من تفاقم عواقب مشكلة تمر بها المرأة تهدد حياتها وحياة طفلها. هل السماح بإجهاض الحمل غير الشرعي هو الحل؟ إن السماح بالإجهاض لن يكون عامل وقاية ولن يعالج جذور مشكلة العنف الجنسي أو جذور مشكلة الزنى وسفاح المحارم، فبالإضافة لكونه تدمير كائن بشري هو محرم شرعا والسماح به على الأغلب سيعطي إنطباع للتراخي بالتعامل مع المشكلة وقد يؤدي إلى تفاقمها.


أن عواقب قرار المرأة اليائسة بالتخلص من وليدها إما بتركه أو قتله ستأثر عليها مدى حياتها وتتصف هذه العواقب بالقنوط وبالكرب الشديد وبالندم والشعور بالذنب، ولهذا السبب عادة ما يحكم القضاة في هذه القضايا بأخف عقوبة ممكنة، وقوانين العقوبات بالعادة تساعد على ذلك. إن الأم هي الوحيدة المرئية في هذه الجريمة فبالإضافة لبشاعة فعلتها بالتخلي عن وليدها بهجره حيا أو قتله فإنها توصم اجتماعيا بسبب هذا الحمل حتى وأن كانت ضحية الجريمة وليست مُرتكبتها، ونادرا جدا ما يتم التعاطف معها، ويتفاقم وضعها سؤا بسبب تخلي أسرتها عنها أثناء محنتها وبسبب غياب النظم المؤسسية إن كانت حكومية أو تطوعية التي تحمي المرأة في ظروفها العصيبة، ففي وضوح صورة التعاطف مع الوالدة التي قد تكون ضحية إغتصاب وإستغلال جنسي أو ضحية نبذ الأسرة والمجتمع لها يحجب الغموض الأطفال اللقطاء؛ الضحايا اللذين ليس لهم صوت والذين يُتركون بدور الرعاية الإجتماعية، فلن نعرف مستقبلا ماذا سيحصل لهم ولن يتتبعهم العامة من الناس بعد أيام من قراءة خبر أو مقال عنهم بالصحف، ولن نعرف من سيكونون ولن نعرف أيضا ماذا سيقولون مستقبلا بأصواتهم الصامتة حاليا، أما الموت فسيحجب أصوات من قتل منهم إلى الأبد،،،، فمن منا هو صوتهم الآن، هؤلاء الأطفال يستحقون الحياة ويستحقون العدالة.

الدكتور هاني جهشان مستشار الطب الشرعي

الخبير في مواجهة العنف لدى مؤسسات الأمم المتحدة

٤٢٥ مشاهدة
bottom of page