ما هي الأسباب التي توصل الشخص لقرار الانتحار؟
الجواب على هذا السؤال يتطلب استعراض جذور الانتحار الموثقة علميا:
العوامل النفسية: يكمن وراء السلوك الانتحاري عدد كبير من عوامل الخطورة الكامنة، وهي معقدة وتتآزر ببعضها البعض وتشمل عوامل الخطورة هذه الحالة النفسية السابقة للانتحار، كالاكتئاب والفصام واضطرابات المزاج واضطرابات الثنائية القطب (وهي حالة تتميز بفترات من الاكتئاب تتناوب مع فترات من الابتهاج)، القلق واضطرابات التواصل مع الأخرين، والشعور بفقدان الأمل. تشكل عوامل الخطورة هذه، بمرجعية عدة دراسات، ما نسبته 65 إلى 90% من دوافع الانتحار.
العوامل الاجتماعية والاقتصادية: اثبتت العديد من الدراسات المسندة شيوع الانتحار في المجتمعات المهمشة والمحرومة والتي يعاني افرادها من الفقر والبطالة والجهل، حيث لا تهتم هذه المجتمعات بالصحة العقلية بسبب الوصمة الاجتماعية، ويتفاقم الامر سوءا بسبب ضعف او غياب الخدمات الحكومية في مجال الصحة العقلية الوقائية والعلاجية. فكلما زاد الفقر والجهل وازدادت البطالة وبغياب توفر خدمات الصحة العقلية، يزداد شيوع الانتحار، وتتفاقم الأمور عند معاناة الافراد في المجتمعات الفقيرة المهمشة من التعود على الكحول او الإدمان على المخدرات والعقاقير او من معاناتهم من أمراض نفسية او اضطرابات سلوكية.
العوامل المتعلقة بالتعرض لحدث أليم او صدمة في الحياة: فقد يكون (1) بسبب التعرض للعنف الجسدي الشديد او التعرض لاعتداء جنسي كالاغتصاب وخاصة لدى اليافعين والمراهقين او تعرض الفتيات للاستغلال الجنسي. (2) حدوث وفاة لشخص قريب كالأب او الام او الاخوة (3) الخسارة الاقتصادية أو فقدان الوظيفة أو افلاس الشركة. ينتج عن ذلك أعراض متلازمة ما بعد الصدمة وهي عبارة عن تكرار ذاكرة الحدث المؤلم بشكل اقتحامي ويرافق ذلك تجنب ظروف مشابهة للحدث واضطرابات النوم والطعام، وقلق وتوتر، وفي حال لم يتم علاج ما بعد الصدمة من قبل الطب النفسي والعلاج النفسي السريري والدعم الاجتماعي فهناك احتمال بان تنتهي الحالة بالانتحار.
المعاناة من مرض خطير: المعاناة من مرض جسدي خطير يؤثر بشكل مباشر على الحالة النفسية للمريض مما يزيد من نسب الانتحار، فلقد اثبتت الدراسات ان الذين يعانون من الامراض الخطرة التي يرافقها إعاقة جسدية أو تهديد بالموت بما فيها السرطان، الايدز، او شلل الأطراف، تزداد نسبة شيوع الانتحار بينهم. إن عدم تقديم الرعاية الصحية المتكاملة للذين يعانون من الامراض الخطيرة بمركباتها الاساسية الثلاث وهي الجسدية والنفسية والاجتماعية يؤدي لتفاقم احتمال معاناتهم من الاكتئاب وبالتالي تزايد إمكانية الانتحار.
الوصمة الاجتماعية: وتشمل (1) الهروب من فضيحة ارتكاب جرائم كبرى من مثل الاتجار بالبشر والاتجار بالسلاح وغسل الأموال، (2) عدم القدرة على التأقلم بسبب التوجه الجنسي (الشذوذ الجنسي) لبعض الافراد فهم يعانون من العزلة والكرب والوصمة الاجتماعية ويرافق ذلك تعودهم على الكحول والمخدرات والاضرابات النفسية ومن أهمها الكآبة التي قد تؤدي للانتحار.
العوامل الاسرية: هناك زيادة في النزعة للانتحار في حالات الزواج المبكر وفي حالات وجود العنف الأسري، وفي حالات الطلاق ووفاة الزوج أو الزوجة (الترمل). الأسر في ظروف عزلة اجتماعية، والإخفاق بالتواصل الاجتماعي على مستوى افراد الأسرة تشكل عوامل خطورة للانتحار وإن كانت غير مباشرة.
الربط مع واقع الاجتماعي الحالي في الاردن لتوضيح زيادة نسبة الانتحار:
واقع خدمات الطب النفسي العلاجية في الأردن ليس بأحسن حال على مدى السنوات الماضية وللأسف هو في انحدار مستمر بسبب غياب الإرادة السياسية لوزارة الصحة وعدم إعطاء الصحة العقلية الأولوية، فهناك غياب قانون خاص للصحة النفسية تتحمل الحكومة تنفيذه، وهناك هجرة الأطباء والممرضين، وغياب العلاج التكاملي الطبي، النفسي، والاجتماعي بسبب نقص كبير في المهن الاجتماعية المساندة.
فشل تضمين برامج الصحة العقلية في خدمات الصحة العامة بالمراكز الصحية في عموم المملكة استمرارا لمشروع كفلته منظمة الصحة العالمية بمركزين صحيين الا أن البرنامج أوقف بتوقف دعم المشروع. أهمية هذه المشاريع هي في الاكتشاف المبكر للحالات قبل ان يصل بعضها للانتحار، ومحاربة الوصمة الاجتماعية الثقافية المرتبطة بالمرض النفسي والادمان.
هناك غياب تام لمراكز متخصصة بحالات الانتحار لها خط ساخن تساعد من يحتاجها بتوفير الدعم على مدار الساعة يتواجد بها مهنيين من القطاعات الطبية والنفسية والاجتماعية، ومن المؤسف ان نشاهد جميع حالات محاولات الانتحار التي ترد لطوارئ المستشفيات الحكومية والخاصة والعسكرية والأونروا تخرج من المستشفى بعد علاجها من المحاولة، دون أية متابعة لاحقة تمنع محاولة التكرار او تتعامل مع جذور ودوافع الانتحار.
تتضح مسؤولية الحكومة المباشرة بالوقاية من الانتحار بالتخطيط والتنفيذ والرقابة على برامج لرفع الوعي العام حول الامراض النفسية والانتحار، وللأسف لا يوجد مؤشرات تشير لوجود مثل هكذا برامج لوزارة الصحة بالقريب العاجل.
هناك إخفاق أيضا في مسؤولية الحكومة بتوفير بيئة تقييد الوصول لوسائل الانتحار أو إتاحة طرق الانتحار والتي تشمل: تقييد النفاذ والوقوف على الأماكن العالية والجسور وتقييد الوصول إلى أسطح الأبنية المرتفعة وخاصة إذا كانت مهجورة، وتقييد الحصول على مبيدات الحشرات والأسمدة السامة، وضبط صرف الأدوية بالصيدليات والرقابة على وضعها في عبوات ملصقة بإحكام. وإنقاص إتاحة الأسلحة النارية بين المواطنين.
كما تم التوضيح ان الانتحار مرتبط بالفقر والبطالة والجهل ويتوقع ان يتم مواجهة هذه الظواهر ببرنامج وطني اقتصادي اجتماعي شامل، ويبدو ان هناك فشل من قبل الحكومات المتلاحقة بالتعامل مع هذه الظواهر وبالتالي يؤدي الى زيادة في نسبة الانتحار.
أيضا تم التوضيح ان الانتحار مرتبط بالنزاعات الاسرية والعنف الاسري والعنف الجنسي، وكثير من الحالات للأسف لا يتم التبليغ عنها لإدارة حماية الأسرة، وان بُلغت يتم التعامل معها جنائيا دون متابعة اجتماعية نفسية حقيقية مما يزيد من نسبة احتمال حصول الانتحار.
أيضا تم التوضيح ان الانتحار مرتبط بالمعاناة من الأمراض المزمنة مثل السرطان والإيدز وللأسف شاهدنا مؤخرا فوضى التأمين الصحي لهذه الامراض الخطيرة وغياب تحقيق الوعود بالتأمين الصحي للجميع، وعدم فاعلية التأمين الصحي لكبار السن، تؤدي هذه السياسات لتفاقم الحالة النفسية لهؤلاء المرضى ومعاناتهم من فقد الأمان والكآبة والقلق وكل هذه الأمور تزيد من احتمال الانتحار.
ستكون إيه مبادرات لمواجهة النزعة للانتحار أو محاولات الانتحار أو الانتحار الكامل غير فاعلة إذا لم توضع ضمن استراتيجية وطنية تتحمل الدولة تنفيذها.
الدكتور هاني جهشان مستشار الطب الشرعي
الخبير في الوقاية ومواجهة العنف والإصابات
Comments